3 سبتمبر، 2023
سينما – العدد الثاني والعشرون
من المُفترض- حسب طلب رئيس التحرير- أن يكون هذا المقال عن السينما النفسية- كم هي مطاطة هذه العناوين- ولأن المزاج العام للناس في بلادي ليس في أحسن حالاته، بل ويحمل كما من التعكير اليومي، وصراعات مرور اليوم بالدفع الذاتي؛ فلقد وجدتي أميل إلى بعض الحكايات الشعبية في إطار الموضوع المطروح، ربما يتحسن مزاج أحدهم ويصفوا له عكار النيل، وربما دجلة والفرات.
أتمنى من قلبي أن تُساعد قراءة المقال، ولو للحظة، في نسيان وجع ما آل إليه تدفق تيار الألم بسبب الوضع العام الذي يُشكل حالة نفسية كبيرة أكبر من حالة البحث حول السينما النفسية وأفلامها وحكاياتها الكثيرة، فحكاية الإنسان هي الأولى من كل الحكايات.
بدأت بالبحث عن مصادر للمقال، مُبحرا في فضاءات شبكات المعلومات، فاكتشفت أن معلوماتي ضعيفة عن فروع عديدة في الدراسات السينمائية، وأن هناك ما يُسمي علم نفس الافلام. كما تصفحت كتاب اسمه- السينما وعلم النفس: علاقة لا تنتهي”، تأليف الأمريكي سكيب داين يونج، وفي الحقيقة هو كتاب مُمتع بشكل ما، ولكن من صعب تلخيصة أو عرضه من دون الإخلال بما يرمي إليه من الجماليات النفسية للفيلم. وكيف أن السينما ليست مُجرد حكايات تنتهي في ساعتين، زادت أو نقصت. يقول الكاتب: إن تجربة الفيلم تتضمن وعيا بعدم واقعية المشاهد المتصورة عند المُتلقي، ويعتبر هذا الوعي أساسيا للجماليات النفسية، هو الذي يجعلنا نقبل فيلما، ونرفض آخر، كما ينظر المُؤلف إلى جميع أشكال الفن على أنها تتجاوز مُجرد تقليد الطبيعة. وأن الرضى الجمالي لا يعتمد على التعرف على التشابه مع العالم الحقيقي، أو الاحتياجات العملية، ولكن على الشعور بالاتفاق الداخلي والانسجام. ألم أقل لكم إن الكتاب يصعب عرضه وتلخيصة من دون ارتباك عندك وعندي؟
سُرد في الكتاب حكايات مشهورة، خاصة حادث محاولة اغتيال ريجان، رئيس أمريكا الأسبق- سوف أنقلها كما وردت في الكتاب- كان فيلم “سائق التاكسي” أُنتج في 1976م من إخراج مارتن سكورسيزي، ومن بطولة روبيرت دي نيرو، وجودي فوستر. تدور قصة الفيلم حول ترافيس بيكل “روبيرت دي نيرو” سائق التاكسي وجندي سابق في البحرية خلال حرب فيتنام، يريد أن يقاوم كل الفساد في مدينته.
بالمُناسبة رُشح الفيلم لأربع جوائز أوسكار، من ضمنها أفضل فيلم. وحصل على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي. معهد الفيلم الأمريكي صنف “سائق التاكسي” في المركز الـ52 في قائمة أعظم 100 فيلم أمريكي. في عام 1994م تم اختياره من أجل حفظه ضمن سجل الأفلام الوطنية من قبل مكتبة الكونجرس الأمريكية، لكونه أثرا “حضاريا وتاريخيا أو جماليا”. في عام 1981م كان هناك مُتفرج اسمه جون هينكلي شاهد الفيلم أكثر من 15 مرة في دور عرض مُخصصة للعروض القديمة. وقد أوحى له الفيلم باغتيال الرئيس ريجان كي يَجذب اهتمام جودي فوستر التي كان هينكلي مهووسا بها عاطفيا، وباءت محاولة الاغتيال بالفَشل، لكنَّها أسفرت عن إصابة ريجان بطلْق ناري، وإصابة عدد كبير من الأفراد بجروح خطيرة، وشخصت حالة هينكلي على أنها فصام ارتيابي، وتمت تبرئته في المحكمة استنادا إلى إصابته بالجنون. وقد أصبحت تلك الواقعة جزءًا من الجدل الثقافي حول أثر السينما في الحالة النفسية، بل أيضا يشرح مُؤلف الكتاب الحالة النفسية لمُخرج الفيلم مارتن سكورسيزي، وارتباطها بحياته الخاصة، ومنهج استخدامه للكاميرا وزواياها.
ما هذا، يبدو أن الموضوع كبير، ويزداد الارتباك لأن علم نفس الأفلام ليس الموضوع الشعبي البسيط الذي يجذب متذوقي السينما- ربما بعض المهتمين- فلنقل حكاية عم الحاج نذير، ربما نُخفف من هذا الارتباك، ونجذب المزيد من التعاطف على رصيف موضوع السينما النفسية وأثرها علي حياة البشر العاديين.
الشاب نذير ثري وابن أسره غنية يتقن الفرنسية والإنجليزية بطلاقة، ويعمل في تجارة القطن مع فرغلي باشا، ملك القطن في ذلك الوقت، أيام العصر الذهبي للقطن وبورصة القطن الشهيرة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، حتي ضربت الأزمة الاقتصادية العالمية بورصة القطن فأفلست العائلة تماما، ومات أبوه من الصدمة، وارتبكت حياة نذير بشدة، وفي أحد الأيام، أثناء بحثه عن حلٍ مالي لوضعه المُتأزم قرر أن يرفه عن نفسه بأن يدخل لأول مرة سينما، ربما يشاهد فيلما يربحه لمُدة زمن عرض الفيلم من هم التفكير في أزمته التي تكبر يوما بعد يوم، ولكنه وجد أحد العاملين علي باب دار العرض يمنع- بمُوجب قانون ما وقتها- يمنع دخول الحفاة أحد الراغبين في دخول السينما حافي القدمين، فتفتقت في ذهنه أن يشتري عددا من الأحذية ويجلس بها بجوار باب السينما ليؤجرها للراغبين في دخول دار العرض، وكبرت الحكاية بعدها بأيام وأصبحت مهنة تتخذ من أبواب بعض دور العرض مُستقرا لها، مُؤجرا أخذية للمُشاهدين، يا لغرابة المهنة! إلا أن نذير يصبح بمرور الوقت مُحللا للأفلام، وربما ناقدا، والأهم من ذلك مركزا مُتنقلا لكل الوفود السينمائية من الخارج التي تزور مصر لتصوير الأفلام لتقديم الخدمات الإنتاجية ومعه مُساعديه!
تمر سنوات، ويشتري مخزنا مهجورا ليحوله إلى دار سينما، وأسماها “ليلى” في حي باكوس بالإسكندرية، وأصبح صاحب دار عرض الحاج نذير- سُميت سينما ليلى بعد ذلك- وأثناء زيارة الناقد والمُؤرخ السينمائي العالمي جورج سادول إلى مصر بحثا عن معلومات تفيده في استكمال موسوعته الشهيرة- تاريخ السينما- يلتقي مع الحاج نذير، ويصبح نذير مُرافقا له، ومُترجما للغة الفرنسية في أغلب مُقابلاته مع من يملك معلومات عن تاريخ ونشأة السينما المصرية.
تذكرت هذه الحكاية أثناء تصفحي لكتاب “السينما وعلم النفس”، وأيضا أثناء قراءة بحث مُهم عن “علم نفس الأفلام” الذي أصبح واحد من أهم العلوم في كليات الدراسات الإنسانية- ليت بعض الكتبة يطلعوا عليه.
يقول الحاج نذير “رحمه الله” في حكاياته التي حكاها لي شخصيا: إن تأثير السينما علي مسار حياته كان عظيما، وهو الذي في شبابه كان ينظر إلى مُرتادي السينما ومُحبيها على أنهم شباب مُستهتر لا يجدون ما يفعلونه، وهو الشاب الثري المُنشغل بالتجارة وبورصات القطن، ويرتدي الطربوش إمعانا في الوقار الوظيفي والاجتماعي، وأصبح الحاج نذير واحدا من أهم مُتذوقي الأفلام، بل وأكثر خبرائها على مستوى قراءة مزاج الجمهور، وأي فيلم ينجح وتوقيت عرضه. كما أنه تشارك في عدد من استوديوهات السينما في الإسكندرية- حيث كانت مركز السينما المصرية إبان نشأتها- وحتي بعد انتقال المركز إلى القاهرة، ظل هو في الإسكندرية لا يغادرها إلى أن توفاه الله في مُنتصف السبعينيات وهو يمتلك حوالي أربعة دور عرض في الإسكندرية، وبعض المُدن المُحيطة، وأرشيف ضخم من بوبينات الافلام القديمة خاصة الأجنبية التي أدمن على مُشاهدتها، وأصبح شغوفا بها حد الإدمان.
هنا، هل نربط خيوط الحكايات المذكورة أعلاه- اغتيال الرئيس ريجان وسائق التاكسي والحاج نذير- ببعضها لنرى التأثير النفسي للسينما على الناس. أين علم نفس الأفلام في هذه القصة؟ أعتقد أنه موجود في زوايا الحكايات. وكل فيلم بالمُناسبة حالة نفسية مهما كانت درجة جودته، وكل مُشاهد ومُدمن سينما أيضا حالة نفسية مهما كانت درجته الاجتماعية ووظيفته. أصبحنا كلنا مُرتبطين بفن السينما، ذلك الفن الأحدث على الإطلاق بين كل الفنون التي ابتدعها الإنسان مُنذ عرف التعبير الفني عن نفسه بأدوات فنية بسيطة تطورت عبر تاريخ الإنسانية.
نعود إلى الكتاب مرة أخرى في محاولة لفك الارتباك- السينما وعلم النفس علاقة لا تنتهي- ففي أحد المقالات بجريدة الأنباء الكويتية يطرح كاتبه الذي لم يذكر اسمه عن الكتاب أنه يتحدث بصورة أساسية عن فرضية أن جميع الأفلام مُفعمة بالعناصر السيكولوجية، وزاخرة بالدراما الإنسانية التي تم تناولها من الزوايا المُختلفة، ومما له دلالة في هذا الشأن أن كلا من علم النفس المعملي والتحليل النفسي الإكلينيكي ظهرا في اللحظة التاريخية نفسها تقريبا التي ظهرت فيها السينما، نهاية القرن التاسع عشر، ومن الواضح أن التأثير الثقافي لكتب علم النفس والسينما على القرن التالي وما بعده كان هائلا، فعلى امتداد هذا المسار التاريخي كان هناك العديد من المُناسبات التي شخص فيها علماء النفس بأبصارهم نحو السينما، مثلما كان هناك العديد من الأوقات التي شخصت فيها السينما ببصرها نحو علماء النفس، وهذا الكتاب يقدم لمحة من هذا التضافر الساحر بين علم النفس والسينما. وعلى ضوء الكتاب نُسلط الضوء على المفهوم الذي يتناوله بذكر الأفلام التي تناولت أمراضا نفسية بعينها، وقد زخر العام 2017م بعدد من الأفلام التي تدور حول ذلك، ومن أهمها من وجهة نظرنا فيلم Split من بطولة النجم جيمس ماكافوي الذي أدى فيه شخصيات مُتعددة، وتناولت أحداثه مرض الفصام بشكل مُختلف ومُبتكر، فشاهدنا جيمس يقوم بدور الولد المُتخلف الذي يفتقد الحنان تارة، وتارة أخرى شاهدناه شخصا مُتزنا، وفي مشهد آخر نراه امرأة .وكانت قصة الفيلم تدور حول اختطاف ثلاث فتيات من قبل رجل غير معروف الهوية، ويبدو مُضطربا ولا يعرف الدافع من وراء اختطافه للفتيات، وكانت إحدى الفتيات تدعى كاسي “أنيا تايلور جوي”، وهي فتاة انطوائية، ومُثيرة للمشاكل، وتتجنب الحديث مع أي شخص، وتجد نفسها مدعوة لحفل عيد ميلاد إحدى زميلاتها تدعى “كلير”، وتصحبهما فتاة أخرى تدعى “مريكا”، ويقرر والد “كلير” إيصال “كاسي” لمنزلها، لكن تتبدل الأقدار، وتقع الفتيات الثلاث فريسة لرجل مجهول يخطفهن ويحبسهن في مكان مُغلق، ومن الناحية الأخرى نتعرف على د. فليتشر “بيتي بوكلي”، وهي دكتورة نفسية. حاول البطل في الفيلم أن يبقي على الفتيات محجوزات لديه في مخبئه بكل الطرق، إلا أنهن يستطعن الهرب في النهاية، وهذا مُجرد مثال على علاقة السينما بعلم النفس. ورغم أن المثال الذي اخترناه هو فيلم تناول القصة بشكل مُنحرف للدرجة القصوى إلا أن للسينما دورا كبيرا في اللعب بنفسياتنا وعقولنا، ولذلك لا تنفصل صناعة السينما عن علم النفس، ولكن هل تتوقف العلاقة بين السينما وعلم النفس عند إبراز الأمراض النفسية في الأعمال الدرامية، أم أن هناك رابطا آخر؟
بالطبع هناك رابط نفسي آخر وهو الرابط بين المُتفرج ومحتوى العمل السينمائي، فعلى سبيل المثال نجد أن الارتباط بين المُتفرج وأبطال العمل، مُؤثر نفسي استغله المُخرج لصالح العمل، ونجد ارتباط أجيال وأجيال بشخصيات بعينها مثل دور “روكي” الذي أداه النجم سيلفستر ستالون، ودوره أيضا في سلسلة أفلام “رامبو”، هذا أيضا تأثير نفسي مُرتبط بالسينما.
الكاتب
أشرف سرحان
مصر
مجلة نقد 21